بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

         لكل مجتمع – صغير أو كبير – نصيب من الحضارة والثقافة، مهما يكن فيه من تفاوت بالقياس إلى غيره، فهو دال على ما لهذا المجتمع من قدرات إبداعية وطاقات ابتكارية وإمكانات إنتاجية، في مختلف الميادين، ولا سيما التي يكون له فيه تميز وتفرد.

 

         وتعتبر الموسيقى والغناء بجميع مقوماتهما ومكوناتهما، وبكل ما يرتبط بهما من أنماط تعبيرية وأشكال أدائية، في طليعة ما يبوئ المجتمع – أي مجتمع – مكانة مرموقة تنم عن حس رقيق وذوق راق، إضافة إلى ما تكشف لهذا المجتمع من رؤى وتصورات تتعلق بالحياة والكون، وما يكون له – نتيجة ذلك – من أواصر وروابط، سواء بين أفراده أو مع غيرهم. وهي صلات تتقارب أو تتباعد بقدر ما تتيحه من وشائج نفسية وعلاقات ذهنية يبلورها مدى التجاوب وما يترتب عنه من طرب وابتهاج.

 

         وإن الباحث في التراث الموسيقي والغنائي بالمغرب، ليعجب من خصبه وغناه، وما يزخر به من تنوع وتعدد تبعا لتنوع البيئة وتعددها، مما لا مجال لحصره أو تحديده، ما لم يُستعد لذلك بإرادة ومعرفة وصبر وأناة، وقبل هذا كله بروح من المواطنة التي لا يمكن أن تكون صادقة وخالصة – أي مواطنة حقيقية – إلا إذا كانت في قلب كل فرد تحتل عمقه بعفوية وتلقائية، وبحب وعشق.

 

         وهو ما كنت نبهت إليه منذ نحو من أربعة عقود، في خضم عنايتي بالتراث المغربي – المدرسي منه والشعبي – وأشرت إلى بعض ألوانه الأصيلة والوافدة، ولا سيما ذات الطابع المحلي العريق، أو المكتسبة لهذا الطابع بطول الاحتكاك والممارسة ؛ مع الإلحاح على ضرورة بعثها جميعا، والاستيحاء منها في سياق من التجديد ما كان أحوج التراث كله يومئذ إليه ؛ وهو اليوم أكثر حاجة.

         وكان الأمل عندي أن ينكب أصحاب هذا الفن، ولا سيما أولئك الذين اعتبروا روادا للموسيقى والغناء بعد الاستقلال، وخاصة في سنوات الستين والسبعين، على ما في التراث المغربي من إيقاعات وأنغام، حضرية وبدوية وأمازيغية وصحراوية، لاستلهامها بقصد إغناء الموسيقى والأغنية المغربيتين عامة، وكذا تطويرها والنظر في إمكان توظيفها في ميادين أخرى، والمسرح على الخصوص. وهو ما لم يمسوه إلا برفق شديد، وفي نطاق ضيق ومحدود، في حين كان الميل عند معظمهم – ربما بحكم طبيعة الفترة – إلى تقليد الإنتاج المشرقي، ثم الغربي فيما بعد.

 

         وإذ لم أكن من أهل هذا الاختصاص الفني الدقيق، فقد وجهت اهتمامي إلى ما له صلة وثيقة بانشغالاتي الأدبية على مستوى المغرب والأندلس، مما جعلني أعنى بقصيدة "الملحون" من حيث هي إبداع مغربي أصيل، وكذا بالموسيقى الأندلسية المعروفة بـ "الآلـة"، تحفزاً من النص الذي يعتمد أداؤها عليه، ومعظمه من الموشح ؛ وتحفزاً كذلك من بعض العناية بنوبات هذه الآلة وما لها من طبوع. وعندي أن هذا الفن الأندلسي على وفادته، أضحى بحكم ما سبق أن ذكرت من طول الاحتكاك والممارسة، ذا سمة مغربية زاد فيها ما كان للمغاربة من إضافة إليه، وما كان له من تأثير على غيره، وفق ما يلاحظ في أداء الملحون.

 

         وعلى الرغم من أني نشرت بعض الأعمال المتعلقة بهذين الفنين: الملحون والآلة، فقد ظلت عندي كتابات متفرقة متصلة بهما، هي هاته التي يجمعها هذا الكتاب الذي جعلت عنوانه يبرز مدى التواصل الذي كان بين المغرب والأندلس على مدى قرون عديدة ؛ مع شيء من التكرار قد يلاحظ في بعض العروض، نتيجة طبيعتها وظرف إلقائها.

 

         فلعل الإخوة الباحثين – والمتخصصين منهم في التراث الموسيقى والغنائي المغربي – وكذا الإخوة الممارسين لهذا الفن، تلحينا وأداء وقبل ذلك وضع كلمات له، أن يعيروا مزيداً من الرعاية والعناية لما في الإرث المحلي الأصيل بعيداً عن أية فولكلورية مقدوح فيها، وبعيداً كذلك عن أي تعصب أو انحياز، ولكن بهدف الكشف عن كنوز هذا الإرث واستثمارها ومد الجسور بين مختلف أنواعها، ثم بينها وبين غيرها مما ارتبط به المغاربة على مدى العصور، وما زالوا مرتبطين، يتلذذون به، ويطربون له، مشدودين به وبغيره إلى المشرق العربي الكامن في أعماقهم، عبر الامتزاج الحضاري والثقافي الذي صهرته العقيدة الإسلامية، ومعه انصهرت المواطنة المغربية قوية متينة.

 

         ومن الله العون والتوفيق.

         وهو الهادي إلى سبيل الرشاد.

 

الرباط 28 ذي القعدة 1422هـ                                         عباس الجراري

الموافق 11 فبراير 2002م